فصل: باب فَضْلِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلا يَقْعُدُ حَتَّى تُوضَعَ عَنْ مَنَاكِبِ الرِّجَالِ فَإِنْ قَعَدَ أُمِرَ بِالْقِيَامِ

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، كُنَّا فِى جَنَازَةٍ، فَأَخَذَ أَبُو هُرَيْرَةَ بِيَدِ مَرْوَانَ، فَجَلَسَا قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ، فَجَاءَ أَبُو سَعِيد، فَأَخَذَ بِيَدِ مَرْوَانَ، فَقَالَ‏:‏ قُمْ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ هَذَا أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ صَدَقَ‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وممن رأى ألا يجلس ممن تبع الجنازة حتى توضع‏:‏ الحسن بن علىّ، وأبو هريرة، وابن عمر، وابن الزبير، والنخعى، والشعبى، وبه قال الأوزاعى‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وأما أمر أبى سعيد لمروان بالقيام، فلا أعلم من قال به، وممن روى عنه القيام للجنازة إذا مرت بهم ممن ذكرناهم فى الباب قبل هذا لم يحفظ عن أحد منهم مثل قول أبى سعيد‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقعود أبى هريرة ومروان دليل على أنهما علما أن القيام ليس بواجب، وأنه أمر متروك ليس عليه العمل، لأنه لا يجوز أن يكون العمل على القيام عندهم ويجلسان، ولو كان أمرًا معمولاً به ما خفى على مروان مثله، لتكرُّر مثل هذا الأمر وكثرة شهودهم للجنائز، والعمل فى هذا على ما روى ابن وهب، عن ابن عمر، وأصحاب محمد، أنهم كانوا يجلسون قبل أن توضع الجنائز‏.‏

باب مَنْ قَامَ لِجَنَازَةِ يَهُودِىٍّ

- فيه‏:‏ جَابِر، قَالَ‏:‏ مَرَّ بِنَا جَنَازَةٌ، فَقَامَ لَهَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَقُمْنَا بِهِ، فَقُلْنَا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِىٍّ، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِذَا رَأَيْتُمُ الْجِنَازَةَ فَقُومُوا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، إِنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ، فَقَامَ، فَقِيلَ‏:‏ إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِىٍّ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَلَيْسَتْ نَفْسًا‏)‏‏.‏

وكَانَ أَبُو مَسْعُودٍ، وَقَيْسٌ يَقُومَان‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ قد ثبت نسخ هذه الآثار، ومما يبين ذلك ما حدثنا محمد بن بكر، حدثنا أحمد بن داود، ثنا مسدد، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الليث بن أبى سليم، عن مجاهد، عن ابن سخبرة، قال‏:‏ كنا قعودًا مع على بن أبى طالب ننتظر جنازة، فمرت أخرى فقمنا، فقال علىّ‏:‏ ما هذا القيام‏؟‏ فقال أبو موسى‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏إذا رأيتم جنازة مسلم، أو يهودى، أو نصرانى فقوموا، فإنكم لستم تقومون لها، إنما تقومون لمن معها من الملائكة‏)‏‏.‏

فقال علىّ‏:‏ إنما صنع ذلك رسول الله مرة واحدة، وكان يتشبه بأهل الكتاب فى الشىء، فإذا نُهى عنه تركه‏.‏

فأخر على فى هذا الحديث أن رسول الله إنما كان يقوم على التشبيه بأهل الكتاب، وعلى الاقتداء بمن كان قبله من الأنبياء، حتى أُمر بالقعود‏.‏

وحدثنا فهد، حدثنا محمد بن سعيد الأصبهانى، حدثنا شريك، عن عثمان بن أبى زرعة، عن زيد بن وهب، قال‏:‏ تذاكرنا القيام إلى الجنازة عند علىٍّ، فقال أبو سعيد‏:‏ قد كنا نقوم، فقال على‏:‏ ذلك وأنتم يهود‏.‏

فمعنى هذا أنهم كانوا يقومون على شريعتهم، ثم نسخ ذلك بشريعة الإسلام‏.‏

وقد روى أن قيامه صلى الله عليه وسلم كان لمعنى آخر‏.‏

أخبرنا إبراهيم بن مرزوق، أخبرنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال‏:‏ سمعت محمد بن عمرو يحدث عن الحسن، وابن عباس، أو عن أحدهما، أن النبى صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة يهودى، فقام، فقال‏:‏ ‏(‏آذانى نتن ريحها‏)‏‏.‏

وذكر الطبرى عن الحسن بن على، أن رسول الله إنما قام لجنازة يهودى حين طلعت عليه، كراهية أن تعلو على رأسه‏.‏

باب حَمْلِ الرِّجَالِ الْجِنَازَةَ دُونَ النِّسَاءِ

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، قَالَ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ، وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً، قَالَتْ‏:‏ قَدِّمُونِى، قَدِّمُونىِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ، قَالَتْ‏:‏ يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا، يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَىْءٍ إِلا الإنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهُ لصَعِقَ‏)‏‏.‏

وترجم له باب‏:‏ ‏(‏قول الميت وهو على الجنازة قدمونى‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ الترجمة تخرج من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏واحتملها الرجال‏)‏ دليل أن النساء لا يحملنها، لأنهن لا يلزمهن ما يلزم الرجال من المؤن، والقيام بالحقوق، ونصرة الملهوف، وإعانة الضعيف، وقد سقط عنهن كثير من الأحكام، عذرهن الله بضعفهن، فقال‏:‏ ‏(‏إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 98‏]‏ الآية، وقول بعض الناس فى قوله‏:‏ ‏(‏يسمعها كل شىء إلا الإنسان‏)‏ إن قيل‏:‏ ينبغى أن يسمعها الحيوان الصامت بدليل هذا الحديث، لأنه إنما استثنى الإنسان فقط‏.‏

قيل‏:‏ هذا مما لفظه العموم، والمراد به الخصوص، وإنما معناه‏:‏ يسمعها كل شىء مميز، وهم الملائكة والجن، وإنما يتكلم روح الجنازة، لأن الجنازة لا تتكلم بعد خروج الروح منها إلا أن يرده الله فيها، فإنما يسمع الروح من هو مثله ويجانسه، وهم الملائكة والجن، والله أعلم، وقد بين صلى الله عليه وسلم المعنى الذى من أجله منع الإنسان أن يسمعها، وهو أنه كان يصعق لو سمعها، فأراد تعالى الإبقاء على عباده، والرفق بهم فى الدنيا، لتعمر ويقع فيها البلوى والاختبار‏.‏

باب السُّرْعَةِ بِالْجِنَازَةِ

وَقَالَ أَنَسٌ‏:‏ أَنْتُمْ مُشَيِّعُونَ، فَامْشِوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَخَلْفَهَا، وَعَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ شِمَالِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ قَرِيبًا مِنْهَا‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنْ تَكُن صَالِحَةً، فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إليه، وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد روى شعبة، عن عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبى هريرة، أنهم كانوا معه فى جنازة فمشوا بها مشيًا لينًا، فانتهرهم أبو هريرة، وقال‏:‏ كنا نرمل بها مع رسول الله‏.‏

فأخذ قوم بهذا، وقالوا‏:‏ السرعة بالجنازة أفضل‏.‏

وخالفهم آخرون، وقالوا‏:‏ المشى بها مشيًا لينًا أفضل‏.‏

واحتجوا بما رواه شعبة، عن ليث ابن أبى سليم، قال‏:‏ سمعت أبا بردة يحدث عن أبيه‏:‏ أن النبى،- عليه السلام-، مر عليه بجنازة وهم يسرعون بها، فقال‏:‏ ‏(‏لتكن عليكم السكينة‏)‏‏.‏

وذكر ابن المنذر أنه مذهب ابن عباس‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فلم يكن عندنا فى هذا الحديث حجة على أهل المقالة الأولى، لأنه قد يجوز أن يكون فى مشيهم ذلك عنف مجاوز ما أمروا به فى حديث أبى هريرة من السرعة، فنظرنا فى ذلك هل نجد دليلاً على شىء من ذلك، فروى زائدة، عن ليث، عن أبى بردة، عن أبيه، قال‏:‏ مر على النبى صلى الله عليه وسلم بجنازة يسرعون بها فى المشى، وهى تمخض مخض الزق، فقال‏:‏ ‏(‏عليكم بالقصد فى جنائزكم‏)‏‏.‏

فيحتمل أن يكون أمرهم بالقصد، لأن تلك السرعة يخاف منها أن يكون من الميت فيها شىء، فنهاهم عن ذلك، وكان ما أمرهم به من السرعة فى الآثار الأول هى أفضل من هذه السرعة، فنظرنا فى ذلك أيضًا هل روى فيها شىء يدلنا على هذا المعنى، فحدثنا أبو أمية، قال‏:‏ حدثنا عبيد الله بن موسى، قال‏:‏ حدثنا الحسن بن صالح، عن يحيى الجابر، عن أبى ماجد، عن ابن مسعود، قال‏:‏ سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن السير بالجنازة، فقال‏:‏ ‏(‏ما دون الخبب، فإن يك مؤمنًا فما عجل فخير، وإن يك كافرًا فبعدًا لأهل النار‏)‏‏.‏

فأخبر رسول الله فى هذا الحديث أن السير بالجنازة هو ما دون الخبب، مثل ما أمر به من السرعة فى حديث أبى هريرة، هذا قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، ومحمد‏.‏

وهو قول جمهور العلماء‏.‏

وروى عن النخعى أنه قال‏:‏ انبسطوا بها، ولا تدبوا دبيب اليهود والنصارى‏.‏

وقال ابن حبيب‏:‏ لا تمش بالجنازة الهوينا، ولكن مشى الرجل الشاب فى حاجته، وكذلك قال الشافعى‏:‏ يسرع بها إسراع سجية مشى الناس‏.‏

قال غيره‏:‏ وقد تأول قوم فى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أسرعوا بالجنازة‏)‏ إنما أراد تعجيل الدفن بعد استيقان الموت، واحتجوا بحديث الحصين بن وَحْوَح‏:‏ ‏(‏أن طلحة بن البراء مرض، فأتاه الرسول يعوده، فقال‏:‏ ‏(‏إنى لا أرى طلحة إلا وقد حدث به الموت، فآذنونى به وعجلوا، فإنه لا ينبغى لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهرانى أهله‏)‏‏.‏

وكل ما احتمل فليس يبعد فى التأويل‏.‏

وأما قول أنس‏:‏ ‏(‏أنتم مشيعون، فامشوا بين يديها وخلفها‏)‏ اختلف فى ذلك على ثلاثة مذاهب، فقالت طائفة‏:‏ يمشى أمامها وخلفها وحيث شاء‏.‏

هذا قول أنس بن مالك، ومعاوية بن قرة، وسعيد بن جبير، وبه قال الثورى، قال‏:‏ الفضل فى المشى أمامها وخلفها سواء‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ المشى أمام الجنازة أفضل‏.‏

روى ذلك عن ابن عمر، عن النبى صلى الله عليه وسلم وعن أبى بكر، وعمر، وعثمان أنهم كانوا يمشون أمام الجنازة، وهو قول ابن عمر، وابن عباس، وطلحة، والزبير، وأبى قتادة، وأبى هريرة، وإليه ذهب القاسم، وسالم، والفقهاء السبعة المدنيون، والزهرى، ومالك، والشافعى، وأحمد، وقال الزهرى‏:‏ المشى خلف الجنازة من خطأ السنة‏.‏

واحتج أحمد بتقديم عمر بن الخطاب الناس أمام جنازة زينب بنت جحش، وبحديث ابن عمر، وبعمل الخلفاء الراشدين المهديين‏.‏

وقال ابن شهاب‏:‏ ذلك عمل الخلفاء بعد النبى صلى الله عليه وسلم إلى هلم جرا‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعى‏:‏ المشى خلفها أفضل‏.‏

وهو قول على بن أبى طالب، واحتجوا بما رواه أبو الأحوص، عن أبى فروة الهمدانى، عن زائدة بن خراش، عن ابن أبزى، عن أبيه، قال‏:‏ كنت أمشى فى جنازة فيها أبو بكر، وعمر، وعلى، رضى الله عنهم، فكان أبو بكر، وعمر يمشيان أمامها، وكان على يمشى خلفها، فقال على‏:‏ إن فضل الذى يمشى خلف الجنازة على الذى يمشى أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، وإنهما ليعلمان من ذلك مثل الذى أعلم، ولكنهما سهلان يسهلان على الناس‏.‏

قالوا‏:‏ ومثل هذا لا يقال بالرأى، وإنما يقال بما وقفهم عليه النبى صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ وقد روى عن ابن عمر مثل هذا، روى أبو اليمان، حدثنا أبو بكر بن أبى مريم، عن راشد بن سعد، عن نافع، قال‏:‏ خرج عبد الله بن عمر إلى جنازة فرأى معها نساء، فوقف، ثم قال‏:‏ ردهن فإنهن فتنة الحى والميت، ثم مضى فمشى خلفها، قلت‏:‏ يا أبا عبد الرحمن، كيف المشى فى الجنازة، أمامها أم خلفها‏؟‏ فقال‏:‏ أما ترانى أمشى خلفها‏.‏

فهذا ابن عمر يفعل هذا، وهو الذى يروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يمشى أمامها، فدل ذلك أن رسول الله كان يفعله على جهة التخفيف على الناس، لا لأن ذلك أفضل من غيره‏.‏

وقد روى مغيرة، عن إبراهيم، قال‏:‏ كانوا يكرهون السير أمام الجنازة، وتأولوا فى تقديم عمر بن الخطاب للناس فى جنازة زينب زوج النبى صلى الله عليه وسلم أمام الجنازة أن ذلك كان من أجل النساء اللاتى كُنَّ خلفها، فكره عمر للرجال مخالطتهن، لا لأن المشى أمامها أفضل‏.‏

وقد روى يونس، عن ابن وهب أنه سمع من يقول ذلك، قال إبراهيم‏:‏ كان الأسود إذا كان فى الجنازة نساء مشى أمامها، وإذا لم يكن معها نساء مشى خلفها‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ومن تبع الجنازة حيثما مشى منها فليكثر ذكر الموت، والفكر فى صاحبهم، وأنهم صائرون إلى ما صار إليه، وليستعد للموت وما بعده، سهل الله لنا الاستعداد للقائه برحمته‏.‏

وسمع أبو قلابة صوت قاصّ، فقال‏:‏ كانوا يعظمون الموت بالسكينة‏.‏

وآلَى ابنُ مسعود ألا يكلم رجلا رآه يضحك فى جنازة‏.‏

وقال مطرف بن عبد الله‏:‏ كان الرجل يلقى الخاص من إخوانه فى الجنازة له عهد عنده، فما يزيده على التسليم، ثم يُعرض عنه كأن له عليه موجدة، اشتغالاً بما هو فيه، فإذا خرج من الجنازة سَائَلَهُ عن حاله‏.‏

وفى سماع أشهب‏:‏ قال أسيد بن الحضير‏:‏ لو كنتُ فى حالتى كلها مثلى فى ثلاث‏:‏ إذا ذكرت النبى صلى الله عليه وسلم وإذا قرأت سورة البقرة، وما شهدت جنازة قط فحدثتُ نفسى إلا بما يقولُ ويقالُ له إذا انصرف‏.‏

باب مَنْ صَفَّ صَفَّيْنِ أَوْ ثَلاثَةً عَلَى الْجِنَازَةِ خَلْفَ الإمَامِ

- فيه‏:‏ جَابِر، أَنَّ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى النَّجَاشِىِّ، فَكُنْتُ فِى الصَّفِّ الثَّانِى أَوِ الثَّالِثِ‏.‏

الصفوف على الجنازة من سُنَّة الصلاة عليها، وقد روى مالك بن هبيرة، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يصلى عليه ثلاث صفوف من المسلمين إلا أوجب‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فينبغى لأهل الميت إذا لم يُخش عليه التغير أن ينتظروا اجتماع قومٍ تقوم منهم ثلاث صفوف لخبر مالك بن هبيرة‏.‏

وقد روى الطبرى من حديث أبى هريرة، وعائشة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من مسلم صلى عليه مائة من المسلمين إلا شفعوا فيه‏)‏‏.‏

وحديث ابن عباس، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من رجل يقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله‏)‏‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ ما وجه اختلاف العدد فى هذه الأحاديث الواردة فيمن يصلى على الميت فيغفر له بصلاتهم‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ وجه ذلك، والله أعلم، أنها وردت جوابًا لسؤال سائلين مختلفين، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن ينطق عن الهوى، فكأن سائلا سأله من صلى عليه مائة رجل هل يشفعون فيه‏؟‏ قال‏:‏ نعم، وسأله آخر‏:‏ من صلى عليه أربعون رجلاً‏؟‏ فقال مثل ذلك‏.‏

ولعله لو سُئل عن أقل من أربعين لقال مثل ذلك‏.‏

وقد بيَّنا فى حديث مالك بن هبيرة ما يدل على أقل من أربعين، لأنه قد يمكن أن تكون الثلاث صفوف أقل من أربعين، كما يمكن أن تكون أكثر، وإنما عَيَّن المائة والأربعين فى الأحاديث المتقدمة وهو من حيز الكثرة، لأن الشفاعة كلما كثر المشفعون فيها كان أَوْكَدَ لها، ولا تخلو جماعة من المسلمين لهم هذا المقدار أن يكون فيها فاضل لا ترد شفاعته، أو يكون اجتماع هذا العدد بالضراعة إلى الله شفيعًا عنده‏.‏

باب الصُّفُوفِ عَلَى الْجِنَازَةِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ نَعَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَصْحَابِهِ النَّجَاشِىَّ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَفُّوا خَلْفَهُ، فَكَبَّرَ أَرْبَعًا‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، فَصَفَّهُمْ، فَكَبّروا أَرْبَعًا‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِرَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قَدْ تُوُفِّىَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنَ الْحَبَشِ، فَهَلُمَّ فَصَلُّوا عَلَيْهِ‏)‏، ‏[‏قَالَ‏:‏‏]‏ فَصَفَفْنَا، فَصَلَّى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ وَنَحْنُ مَعَهُ صُفُوفٌ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ يحتمل أن يترجم البخارى، رحمه الله، هذا الباب والذى قبله خلافًا لعطاء، فإن ابن جريج، قال‏:‏ قلت لعطاء‏:‏ أفحق على الناس أن يسوُّوا صفوفهم على الجنائز كما يسوونها فى الصلاة‏؟‏ قال‏:‏ لا، لأنهم قوم يكبرون ويستغفرون‏.‏

وروى حميد، عن أنس، قال‏:‏ لما جاءت وفاة النجاشى للنبى صلى الله عليه وسلم وصلى عليه، قال بعض أصحابه‏:‏ صَلى عَلَى علج، فنزلت‏:‏ ‏(‏وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 199‏]‏ الآية‏.‏

باب صُفُوفِ الصِّبْيَانِ مَعَ الرِّجَالِ على الْجَنَازَة

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَبْرٍ قَدْ دُفِنَ لَيْلا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَتَى دُفِنَ هَذَا‏؟‏‏)‏ قَالُوا‏:‏ الْبَارِحَةَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَفَلا آذَنْتُمُونِى‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ دَفَنَّاهُ فِى ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ، فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ‏.‏

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ وَأَنَا فِيهِمْ فَصَلَّى عَلَيْهِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فيه صلاة الصبيان مع الرجال على الجنائز، لأن ابن عباس كان حينئذ صغيرًا‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أنه ينبغى تدريب الصبيان على جميع شرائع الإسلام، وحضورهم مع الجماعات ليستأنسوا إليها، وتكون لهم عادة إذا لزمتهم، وإذا ندبوا إلى صلاة الجنازة، ليدربوا عليها، وهى من فروض الكفاية على البالغين، فأحرى أن يندبوا إلى صلاة الفريضة، التى هى فرض عين على كل بالغ، وقد روى عن الرسول أنه قال‏:‏ ‏(‏مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشرة، وقد تقدم ذلك فى كتاب الصلاة‏.‏

باب سُنَّةِ الصَّلاةِ عَلَى الْجَنَازَةِ

وَقَالَ الرسول‏:‏ ‏(‏مَنْ صَلَّى عَلَى الْجَنَازَةِ‏)‏، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ‏)‏، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏صَلُّوا عَلَى النَّجَاشِىِّ‏)‏، سَمَّاهَا صَلاةً لَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلا سُجُودٌ، وَلا يُتَكَلَّمُ فِيهَا، وَفِيهَا تَكْبِيرٌ وَتَسْلِيمٌ‏.‏

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يُصَلِّى إِلا طَاهِرًا، وَلا يُصَلِّى عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلا غُرُوبِهَا، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ‏.‏

قَالَ الْحَسَنُ‏:‏ أَدْرَكْتُ النَّاسَ، وَأَحَقُّهُمْ بِالصَّلاةِ عَلَى جَنَائِزِهِمْ مَنْ رَضُوهُ لِفَرَائِضِهِمْ، وَإِذَا أَحْدَثَ يَوْمَ الْعِيدِ أَوْ عِنْدَ الْجَنَازَةِ، يَطْلُبُ الْمَاءَ وَلا يَتَيَمَّمُ، وَإِذَا انْتَهَى إِلَى الْجَنَازَةِ، وَهُمْ يُصَلُّونَ يَدْخُلُ مَعَهمْ بِتَكْبِيرَةٍ‏.‏

وقال ابْنُ الْمُسَيَّبِ‏:‏ يُكَبِّرُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ أَرْبَعًا‏.‏

وقال أَنَسٌ‏:‏ التَّكْبِيرَةُ الْوَاحِدَةُ اسْتِفْتَاحُ الصَّلاةِ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏، وَفِيهِ صُفُوفٌ وَإِمَامٌ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم صَلى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، فَأَمَّنَا، فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، فَقُلْنَا‏:‏ يَا أَبَا عَمْرٍو، مَنْ حَدَّثَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ابْنُ عَبَّاسٍ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ غرض البخارى الرد على الشعبى، فإنه أجاز الصلاة على الجنازة بغير طهارة، قال‏:‏ لأنها دعاء ليس فيها ركوع ولا سجود، والفقهاء مجمعون من السلف والخلف على خلاف قوله، فلا يلتفت إلى شذوذه‏.‏

وأجمعوا أنها لا تصلى إلا إلى القبلة، ولو كانت دعاء كما زعم الشعبى لجازت إلى غير القبلة، واحتجاج البخارى فى هذا الباب يكفى بعضه، وهو أن النبى سماها صلاة، وقول السلف الذين ذكرهم فى الباب أن حكمها عندهم حكم الصلاة فى أن لا تصلى إلا بطهارة، وفيها تكبير وسلام، ولا تصلى عند طلوع الشمس ولا غروبها، وأن الرسول أَمَّهم فيها وصلوا خلفه، كما فعل فى الصلاة، إلا أنهم اختلفوا فى صلاتها إذا خشى فوتها بالتيمم، فقال مالك، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور‏:‏ ولا تصلى إلا بطهارة، ولا يجوز التيمم لها، وأجاز التيمم لها إذا خاف فوتها‏:‏ عطاء، وسالم، والنخعى، والزهرى، وربيعة، والليث، والثورى، وأبو حنيفة، والأوزاعى، وابن وهب صاحب مالك‏.‏

وقال ابن حبيب‏:‏ الأمر فى ذلك واسع‏.‏

واحتج هؤلاء بأن صلاة الجنازة لها مزية على سائر النوافل، لأنه قد اختلف فيها، فقيل‏:‏ إنها فريضة على الكفاية، وقيل‏:‏ إنها سُنَّة مؤكدة، فإذا خيف عليها الفوت جاز استدراك فضيلتها بالتيمم‏.‏

واحتج أهل المقالة الأولى، فقالوا‏:‏ أجمع أهل العلم على أن من خاف فوت الجمعة، أنه لا يجوز له التيمم مثل أن يدرك الإمام فى الركعة الثانية، فإن تيمم أدركها مع الإمام، وإن توضأ فاتته، فكلهم قال‏:‏ لا يتيمم وإن فاتته الجمعة فالذى يخاف فوت الجنازة أولى بذلك، لأنها صلاة تفتقد إلى القبلة مع القدرة، وفيها تكبير وسلام، والتيمم طهارة ضرورية، وصلاة الجنازة لا ضرورة إليها، لأنه لا يخلو إما أن يكون وحده فيتوضأ ويصلى، أو يكون مع غيره ممن هو على وضوء، وإن كان ذلك الغير إذا صلى عليها كفى، وسقطت عن غيره، قال ابن القصار‏:‏ وهذا لازم لها‏.‏

واختلفوا فى رفع اليدين فى تكبير الجنازة، فقال مالك فى المدونة‏:‏ لا يرفع يديه إلا فى التكبيرة الأولى، وروى مطرف وابن الماجشون مثله، وإليه ذهب الكوفيون والثورى‏.‏

وروى ابن وهب عن مالك أنه يعجبه الرفع فى كل تكبيرة‏.‏

وروى مثله عن ابن عمر، وسالم، وعطاء، والنخعى، ومكحول، والزهرى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد وإسحاق‏.‏

وذكر ابن حبيب عن ابن القاسم أنه لم يكن يرى الرفع فى الأولى ولا فى غيرها، قال ابن أبى زيد‏:‏ والمعروف عن ابن القاسم الرفع فى الأولى، خلاف ما ذكره عنه ابن حبيب‏.‏

واختلفوا فى التسليم على الجنازة، فقال كثير من أهل العلم‏:‏ يسلم واحدة، روى ذلك عن على، وابن عباس، وابن عمر، وجابر، وأبى هريرة، وأبى أمامة بن سهل، وأنس، وجماعة من التابعين، وهو قول مالك، وأحمد، وإسحاق‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ يسلم تسليمتين‏:‏ واختلف قول الشافعى على القولين‏.‏

وقال مالك فى ‏(‏المجموعة‏)‏‏:‏ ليس عليهم رَدّ السلام على الإمام، وروى عنه ابن غانم قال‏:‏ يرد على الإمام من سمع كلامه‏.‏

وكره أكثر العلماء الصلاة على الجنازة فى غير مواقيت الصلاة، روى ذلك عن ابن عمر أنه كان يصلى عليها بعد العصر حتى تصفر الشمس، وبعد الصبح حتى يسفر، ونحوه عن الأوزاعى، والثورى، والكوفيين، وأحمد، وإسحاق، وكرهوا الصلاة عليها عند الطلوع، وعند الغروب، وعند الزوال، زادو وقتًا ثالثًا، وخالفهم الشافعى، فقال‏:‏ لا بأس بالصلاة عليها أى ساعة شاء من ليل أو نهار، وقال‏:‏ إنما ورد النهى فى التطوع، لا فى الواجب والمسنون من الصلوات‏.‏

واحتج الكوفيون بحديث عقبة بن عامر، قال‏:‏ ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلى فيها، ونقبر فيها موتانا‏:‏ عند طلوع الشمس حتى تبيض، وعند انتصاف النهار حتى تزول، وعند اصفرار الشمس حتى تغيب‏.‏

وقول الحسن‏:‏ ‏(‏أحق الناس بالصلاة على جنائزهم من رضوه لفرائضهم‏)‏‏.‏

فإن أهل العلم اختلفوا من أحق بالصلاة عليها الولى، أو الوالى‏؟‏ فقال أكثر أهل العلم‏:‏ الوالى أحق من الولى، روى عن علقمة، والأسود، والحسن، وجماعة، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق‏.‏

إلا أن مالكًا قال فى الوالى والقاضى‏:‏ إن كانت الصلاة إليهم فهم أحق من الولى‏.‏

وقال مطرف، وابن عبد الحكم، وأصبغ‏:‏ ليس ذلك إلى من إليه الصلاة من قاضٍ، أو صاحب شرطة، أو خليفة الوالى الأكبر، وإنما ذلك إلى الوالى الأكبر الذى تؤدى إليه الطاعة‏.‏

وقال أبو يوسف، والشافعى‏:‏ الولى أحق من الوالى‏.‏

واحتج أصحاب الشافعى بقوله‏:‏ ‏(‏وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 75‏]‏ فهم أَوْلى من غيرهم فى كل شىء إلا أن تقوم دلالة‏.‏

وحجة القول الأول ما رواه الثورى، عن أبى حازم قال‏:‏ شهدت الحسين بن على قدم سعيد بن العاص يوم مات الحسن بن على، رضى الله عنهما، وقال له‏:‏ تقدم، فلولا السُّنَّة ما قدمتك، وسعيد يومئذ أمير المدينة‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ ليس فى هذا الباب أعلى من هذا، لأن جنازة الحسن شهدها عوام الناس من أصحاب الرسول، والمهاجرون، والأنصار، فلم يُنكرْ ذلك منهم أحد، فدل أنه كان عندهم الصواب‏.‏

باب فَضْلِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ

وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ‏:‏ إِذَا صَلَّيْتَ فَقَدْ قَضَيْتَ الَّذِى عَلَيْكَ‏.‏

وقال حُمَيْدُ بْنُ هِلالٍ‏:‏ مَا عَلِمْنَا عَلَى الْجَنَازَةِ إِذْنًا، وَلَكِنْ مَنْ صَلَّى ثُمَّ رَجَعَ فَلَهُ قِيرَاطٌ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنُ عُمَرَ أَنّه حدث أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ‏:‏ مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَقَالَ‏:‏ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَيْنَا، فَصَدَّقَتْ- يَعْنِى عَائِشَةَ- أَبَا هُرَيْرَةَ، وَقَالَتْ‏:‏ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُهُ‏.‏

اختلف العلماء فى الانصراف من الجنازة، هل يحتاج إلى أذن أم لا‏؟‏ فروى عن زيد ابن ثابت، وجابر بن عبد الله، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وقتادة، وابن سيرين، وأبى قلابة أنهم كانوا ينصرفون إذا رويت الجنازة، ولا يستأذنون، وهو قول الشافعى، وجماعة من العلماء‏.‏

ولمالك وأصحابه جواز الانصراف قبل الصلاة عليها، وبعدها دون إذن، سأذكره فى الباب بعد هذا، إن شاء الله تعالى‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لابد من الإذن فى ذلك، روى هذا عن عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وأبى هريرة، والمسور بن مخرمة، والنخعى أنهم كانوا لا ينصرفون حتى يستأذنوا‏.‏

وروى ابن عبد الحكم عن مالك، قال‏:‏ لا يجب لمن شهد جنازة أن ينصرف عنها حتى يُؤذن له إلا أن يطول ذلك‏.‏

والقول الأول أَوْلى بالصواب بدليل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من شهد جنازة فله قيراط، ومن شهد حتى تدفن كان له قيراطان‏)‏ لأن قوله‏:‏ ‏(‏حتى تدفن‏)‏ لفظ حَضّ وترغيب، لا لفظ حتم ووجوب، ألا ترى قول زيد بن ثابت‏:‏ إذا صليت فقد قضيت الذى عليك‏.‏

باب مَنِ انْتَظَرَ حَتَّى تُدْفَنَ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَة، قَالَ‏:‏ قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّىَ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ‏)‏، قِيلَ‏:‏ وَمَا الْقِيرَاطَانِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ‏)‏‏.‏

قد قلنا أن الحديث يدل على أنه لا يحتاج إلى أذن فى الانصراف من الجنازة، لأنه أخبر صلى الله عليه وسلم أن من شهد الصلاة فله قيراط، ومن شهد الدفن فله قيراطان‏.‏

فوكله صلى الله عليه وسلم إلى اختياره أن يرجع بقيراط من الأجر إن أحب، أو بقيراطين، فدل على تساوى حكم انصرافه بعد الصلاة وبعد الدفن فى أنه لا إذن عليه لأحد فيه، حين رد الاختيار إليه فى ذلك، هذا مفهوم الحديث‏.‏

وقد أجاز مالك وبعض أصحابه لمن شيع الجنازة أن ينصرف منها قبل أن يصلى عليها، فى سماع أشهب، قال‏:‏ سألت مالكًا‏:‏ هل يحمل الرجل الجنازة وينصرف ولا يصلى عليها‏؟‏ قال‏:‏ لا بأس بذلك، إن شاء الله‏.‏

وروى عنه ابن القاسم أنه لا ينصرف قبل الصلاة إلا لحاجة أو علَّة‏.‏

قال ابن القاسم‏:‏ وذلك واسع لحاجة أو غيرها، وليست بفريضة، يعنى‏:‏ إذا بقى من يقوم بها‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ لا بأس أن يمشى الرجل مع الجنازة ما أحب، وينصرف عنها قبل أن يصلى عليها‏.‏

قاله جابر بن عبد الله‏.‏

باب الصَّلاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ بِالْمُصَلَّى وَالْمَسْجِدِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، نَعَى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّجَاشِىَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ، اليَوْمَ الَّذِى مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اسْتَغْفِرُوا لأخِيكُمْ‏)‏‏.‏

وقال أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ أن الرسول صلى الله عليه وسلم صَفَّ بِهِمْ بِالْمُصَلَّى، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى الرسول صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ المصلى موضع يُصلَّى فيه على الجنائز، وإنما ذكر المسجد فى هذه الترجمة لاتصاله بمصلى الجنائز، فلذلك ترجم له‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ إذا كان مُصلى الجنائز قريبًا من المسجد أو لاصقًا به مثل مصلى الجنائز بالمدينة، فإنه لاصق بالمسجد من ناحية السوق، فلا بأس بوضع الجنائز فى المصلى خارجًا من المسجد، وتمتد الصفوف بالناس فى المسجد كذلك‏.‏

قال مالك‏:‏ فلا يعجبنى أن يصلى على أحد فى المسجد‏.‏

وهو قول ابن أبى ذئب، وأبى حنيفة، وأصحابه، وروى مثله عن ابن عباس‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ ولو فعل ذلك فاعل ما كان ضيقًا، ولا مكروهًا، فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء فى المسجد، وصلى صهيب على عمر فى المسجد، وهو قول عائشة، وقال ابن المنذر‏:‏ صُلى على أبى بكر، وعمر فى المسجد، وأجاز الصلاة فى المسجد‏:‏ الشافعى، وأحمد، وإسحاق‏.‏

وقال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ لا بأس بالصلاة على الجنازة فى المسجد إذا احتيج إلى ذلك‏.‏

وحجة من لم ير الصلاة فى المسجد ما رواه ابن أبى ذئب عن صالح مولى التوأمة، عن أبى هريرة، عن الرسول أنه قال‏:‏ ‏(‏من صلى على جنازة فى المسجد فلا شىء له‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فلما اختلفت الآثار فى هذا الباب، احتجنا إلى كشف ذلك لنعلم المتأخر، فكان فى حديث عائشة دليل أنهم تركوا الصلاة على الجنائز فى المسجد بعد أن كانت تفعل فيه حتى ارتفع ذلك من فعلهم، وذهبت معرفته على عامتهم‏.‏

وفى إنكار من أنكر ذلك على عائشة، وهم يومئذٍ أصحاب رسول الله دليل أنهم قد كانوا علموا فى ذلك خلاف ما علمت، وقال الذين احتجوا بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء فى المسجد‏:‏ الحجة فى رسول الله، وفيه الأسوة الحسنة، ألا ترى قول عائشة‏:‏ ما أسرع ما نسى الناس‏.‏

وليس من نسى علمًا بحجة على من ذكره وعلمه، ولو كان قولها خطأ عندهم لما سكتوا عن تبيينه لها‏.‏

وقال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ وما روى عن الرسول أنه قال‏:‏ ‏(‏من صلى على ميت فى المسجد فلا شىء له‏)‏، فإسناده ضعيف لا يثبت، وقاله ابن المنذر أيضًا‏.‏

باب مَا يُكْرَهُ مِنِ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ

وَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ضَرَبَتِ امْرَأَتُهُ الْقُبَّةَ عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً، ثُمَّ رُفِعَتْ، فَسَمِعُوا صَائِحًا يَقُولُ‏:‏ أَلا هَلْ وَجَدُوا مَا فَقَدُوا‏؟‏ فَأَجَابَهُ الآخَرُ‏:‏ بَلْ يَئِسُوا، فَانْقَلَبُوا‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قالت‏:‏ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِى مَرَضِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ‏:‏ ‏(‏لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَساجد‏)‏‏.‏

قَالَتْ‏:‏ وَلَوْلا ذَلِكَ لأبْرَزُوا قَبْرَهُ، غَيْرَ أَنِّى أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا النهى من باب قطع الذريعة، لئلا يعبد قبره الجهالُ كما فعلت اليهود والنصارى بقبور أنبيائها‏.‏

روى ابن القاسم عن مالك فى ‏(‏العتبية‏)‏ أنه كره المسجد على القبور، فأما مقبرة داثرة يبنى عليها مسجد يُصلى فيه فلا بأس به‏.‏

فى سماع أشهب قال مالك‏:‏ أول من ضرب على قبر فسطاطًا عمر، ضرب على قبر زينب بنت جحش زوج النبى صلى الله عليه وسلم وأوصى أبو هريرة أهله عند موته ألا يضربوا عليه فسطاطًا، وهو قول أبى سعيد الخدرى، وسعيد بن المسيب، ذكره ابن وهب فى موطئه‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ ضرب الفسطاط على قبر المرأة أجوز منه على قبر الرجل، فأُجيز وكُره، ومن كرهه فإنما كرهه من جهة السمعة، وضربته عائشة على قبر أخيها، فنزعه ابن عمر، وضربه محمد بن الحنفية على قبر ابن عباس، فأقام عليه ثلاثة أيام‏.‏

ومعنى ضرب القبة على الحسن حين ضربت عليه‏:‏ سكنت وصلى فيها، فصارت مسجدًا على القبر، وإنما أورد ذلك دليلاً على الكراهية لقول الصائح‏:‏ ‏(‏ألا هل وجدوا‏.‏‏.‏‏)‏ القصة‏.‏

باب الصَّلاةِ عَلَى النُّفَسَاءِ إِذَا مَاتَتْ من نِفَاسِهَا فقام وسطها

وترجم له بَاب‏:‏ ‏(‏أَيْنَ يَقُومُ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ‏)‏‏؟‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ذهب قوم إلى الأخذ بحديث سمرة، وقالوا‏:‏ هذا المقام الذى ينبغى أن يقومه المصلى على الجنازة على المرأة والرجل، روى ذلك عن النخعى، وهو قول أبى حنيفة‏.‏

وخالفهم فى ذلك آخرون، وقالوا‏:‏ أما المرأة فهكذا يقام عند وسطها، وأما الرجل فعند رأسه‏.‏

روى هذا عن أبى يوسف، وأحمد بن حنبل‏.‏

وروى ابن غانم، عن مالك، قال‏:‏ يقوم عند وسط المرأة ولم يذكر الرجل‏.‏

والحجة لأبى يوسف، وأحمد ما روى إبراهيم بن مرزوق، قال‏:‏ حدثنا يعقوب بن إسحاق، حدثنا هشام، حدثنا أبو غالب، قال‏:‏ رأيت أنس بن مالك صلى على رجل فقام عند رأسه، وجىء بجنازة امرأة فقام عند وسطها، فقال له العلاء بن زياد‏:‏ يا أبا حمزة، هكذا كان يفعل رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فبين أنس فى هذا الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقوم من المرأة عند وسطها على ما فى حديث سمرة، وزاد عليه حكم الرجل فى القيام منه للصلاة عند رأسه، فهو أولى من حديث سمرة‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ إنما يقوم من المرأة عند وسطها، لأنها مستورة بالنعش، ومن الرجل حيال صدره، لأنه إن قام وسطه وقع بصره على فرجه، ولعل ذلك أن يبدو‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وزعم زاعم أن قيام المصلى عند وسط المرأة إنما كان لعلة أنه لم تكن نعوش، فكان يقوم بحيال عجيزتها يسترها عن القوم، وذلك محال، لأن النعوش قد اتخذت فى خلافة أبى بكر، وكان أول من اتخذت له فاطمة بنت رسول الله، لأنها قالت لهم عند وفاتها‏:‏ إنى امرأة ضئيلة يرانى الناس بعد وفاتى، فأحب أن يستر نعشى بالثياب‏.‏

وقالت أم سليم، وأسماء بنت عميس أنهما رأتا فى أرض الحبشة النعوش، وأنها للناس مغطاة، فاتخذ لها نعش، فاتخذت فيه وبقى الناس إلى يومنا هذا على ذلك‏.‏

وفى المسألة قول ثالث ذكره سحنون فى ‏(‏المدونة‏)‏ عن ابن مسعود، قال‏:‏ يقوم عند وسط الرجل، وفى المرأة عند منكبيها‏.‏

وذكر ابن المنذر عن الحسن، قال‏:‏ لا يبالى أين قام من الرجل ومن المرأة‏.‏

وبه قال ابن شعبان، وهذان القولان خلاف حديث سمرة وحديث أنس، ولا حجة لهما‏.‏

باب التَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَازَةِ أَرْبَعًا

قَالَ حُمَيْدٌ‏:‏ صَلَّى بِنَا أَنَسٌ فَكَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ كَبَّرَ الرَّابِعَةَ، ثُمَّ سَلَّمَ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ الرسُول نَعَى النَّجَاشِىَّ فِى الْيَوْمِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ‏.‏

وجمهور الفقهاء على أن تكبير الجنازة أربع، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وزيد ابن ثابت، وابن عمر، وابن أبى أوفى، والبراء بن عازب، وأبى هريرة، وعقبة بن عامر، وهو قول عطاء، ومالك، والثورى، والكوفيين، والأوزاعى، وأحمد، والشافعى‏.‏

واختلف الصحابة فيها من ثلاث إلى تسع، وما سوى الأربع شذوذ لا يلتفت إليه، وقال النخعى‏:‏ قبض رسول الله والناس مختلفون، فمنهم من يقول‏:‏ كبر النبى أربعًا، ومنهم من يقول‏:‏ خمسًا وسبعًا، فلما كان عمر جمع الصحابة، فقال‏:‏ انظروا أمرًا تجتمعون عليه، فأجمع رأيهم على أربع تكبيرات، فيحتمل أن يكون ما روى عن الصحابة من خلاف فى ذلك كان قبل اجتماع الناس على أربع، وحديث النجاشى أصح ما روى فى ذلك‏.‏

وقد صلى أبو بكر الصديق على النبى صلى الله عليه وسلم فكبر أربعًا، وصلى عمر على أبى بكر فكبر أربعًا، وصلى صهيب على عمر فكبر أربعًا، وصلى الحسن بن علىٍّ عَلَى علىٍّ فكبر أربعًا، وصلى عثمان على جنازة فكبر أربعًا، وعن ابن عباس وأبى هريرة والبراء مثله، فصار الإجماع منهم قولاً وعملاً ناسخًا لما خالفه، وصار إجماعهم حجة، وإن كانوا فعلوا فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم خلافه لأنهم مأمونون على ما فعلوا كما هم مأمونون على ما رووا‏.‏

فإن قيل‏:‏ فكيف يكون ذلك ناسخًا، وقد كبر علىّ بعد ذلك أكثر من أربع تكبيرات، على سهل بن حنيف ستًا، وعلى أبى قتادة سبعًا‏؟‏‏.‏

قيل له‏:‏ إن عليًا فعل ذلك لأن أهل بدر كان حكمهم فى الصلاة عليهم أن يزاد فيها من التكبير على ما يكبر على غيرهم من سائر الناس، والدليل على ذلك ما رواه ابن أبى زياد، عن عبد الله بن معقل، قال‏:‏ صليت مع علىّ عَلَى جنازة، فكبر عليها خمسًا، ثم التفت، فقال‏:‏ إنه من أهل بدر، ثم صليت مع علىٍّ عَلَى جنائز، كل ذلك يكبر أربعًا‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فكان هذا حكم الصلاة على أهل بدر، وقد حدثنى القاسم بن جعفر، حدثنى زيد بن أخزم، حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا سليمان بن بشير، قال‏:‏ صليت خلف الأسود بن يزيد، وهمام بن الحارث، والنخعى، فكانوا يكبرون أربعًا أربعًا، قال همام‏:‏ وجمع عمر بن الخطاب الناس على أربع إلا على أهل بدرٍ، فإنهم كانوا يكبرون عليهم خمسًا وستًا وسبعًا‏.‏

قال مالك‏:‏ وإن صلى خلف من يكبر الخامسة، فلا يسلم إلا بسلامه، ورواه عنه ابن الماجشون، وقاله مطرف‏.‏

وروى ابن القاسم عن مالك فى العتبية أن المأموم يقطع بعد الرابعة، وكذلك فى سماع ابن وهب، وهو قول أبى حنيفة‏.‏

ولم يحفظ عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه سلم على الجنازة من طريق الرواية، وأجمع الصحابة والتابعون، وأئمة الفتوى بعده على السلام فيها، إلا أن الفقهاء اختلفوا هل يُسلم واحدة، أو اثنتين، وأكثر السلف والخلف على أنها تسليمة واحدة، وروى عن الشعبى أنه يُسلم تسليمتين، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه‏.‏

وقال الثورى‏:‏ واحدة عن يمينه‏.‏

باب قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْجَنَازَةِ

وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ يَقْرَأُ عَلَى الطِّفْلِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَيَقُولُ‏:‏ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا سَلَفًا وَفَرَطًا وَأَجْرًا‏.‏

- وفيه‏:‏ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ‏:‏ صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جَنَازَةٍ، فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، قَالَ‏:‏ لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ‏.‏

واختلف العلماء فى القراءة بفاتحة الكتاب على الجنازة، فروى عن ابن مسعود، وابن الزبير، وابن عباس، وعثمان بن حبيب، وأبى أمامة بن سهل بن حنيف، أنهم كانوا يقرءون فاتحة الكتاب على ظاهر حديث ابن عباس، وهو قول مكحول والحسن البصرى، وبه قال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقالوا‏:‏ ألا ترى قول ابن عباس‏:‏ لتعلموا أنها سُنَّة، والصاحب إذا قال سُنَّة فإنما يريد سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وذكر أبو عبُيد فى ‏(‏فضائل القرآن‏)‏ عن مكحول، قال‏:‏ أم القرآن قراءة ومسألة ودعاء‏.‏

وممن كان لا يقرأ على الجنازة وينكر ذلك‏:‏ عمر بن الخطاب، وعلىّ بن أبى طالب، وابن عمر، وأبو هريرة، ومن التابعين‏:‏ عطاء، وطاوس، وسعيد بن المسيب، وابن سيرين، وسعيد ابن جبير، والشعبى، والحكم، وبه قال مالك والثورى، وأبو حنيفة وأصحابه، قال مالك‏:‏ الصلاة على الجنازة إنما هو دعاء، وليس قراءة فاتحة الكتاب معمولاً بها ببلدنا‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ يحتمل أن تكون قراءة من قرأ فاتحة الكتاب من الصحابة على وجه الدعاء لا على وجه التلاوة، وقالوا‏:‏ إنها سُنَّة، يحتمل أن الدعاء سُنَّة، لما روى عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم أنكروا ذلك، ولما لم يقرءوا بعد التكبيرة الثانية دل أنه لا يقرأ فيما قبلها، لأن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة، ولما لم يتشهد فى آخرها دل أنه لا قراءة فيها‏.‏

باب الصَّلاةِ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ مَا يُدْفَنُ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم مر عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَأَمَّهُمْ، وَصَلَّوْا خَلْفَهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَسْوَدَ، رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً، كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَمَاتَ، وَلَمْ يَعْلَمِ الرسول بِمَوْتِهِ، فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا فَعَلَ ذَلِكَ‏؟‏‏)‏ قَالُوا‏:‏ مَاتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَفَلا آذَنْتُمُونِى‏)‏‏؟‏ فَقَالُوا‏:‏ كَانَ كَذَا وَكَذَا، فَحَقَرُوا شَأْنَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏فَدُلُّونِى عَلَى قَبْرِهِ‏)‏، فَأَتَى قَبْرَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ‏.‏

اختلف العلماء فيمن فاتته الصلاة على الجنازة، هل يصلى على قبرها‏؟‏ فروى عن علىّ، وابن مسعود، وعائشة أنه أجازوا ذلك، وبه قال الأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بأحاديث هذا الباب وغيرها، وقالوا‏:‏ لا يصلى على قبر إلا قرب ما يدفن، وأكثر ما حَدُّوا فيه شهرًا، إلا إسحاق فإنه قال‏:‏ يصلى الغائب من شهر إلى ستة أشهر، والحاضر إلى ثلاثة‏.‏

وكره قوم الصلاة على القبر، وروى عن ابن عمر أنه كان إذا انتهى إلى جنازة قد صلى عليها دعا وانصرف ولم يصل عليها، وهو قول النخعى، والحسن البصرى، ومالك، والثورى، وأبى حنيفة، والليث‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ قلت لمالك‏:‏ فالحديث الذى جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه صلى على قبر امرأة‏؟‏ قال‏:‏ قد جاء هذا الحديث ليس عليه العمل‏.‏

وقال أبو الفرج‏:‏ صلاة النبى على من دُفن خاص له، لا يجوز لغيره، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن هذه القبور مملوءة ظلمة حتى أصلى عليها‏)‏‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يصلى على قبر مرتين إلا أن يصلى عليها غير وليها، فيعيد وليها الصلاة عليها‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ يسقط الفرض بالصلاة الأولى إذا صلى عليها الولى، والصلاة الثانية لو فعلت لم تكن فرضًا فلا يصلى عليها، لأنهم لا يختلفون أن الولى إذا صلى عليه لم يجز له إعادة الصلاة ثانية لسقوط الفرض، وكذلك غيره من الناس إلا أن يكون الذى صلى عليها غير الولى، فلا يسقط حق الولى، لأن الولى كان إليه فعل فرض الصلاة على الميت‏.‏

وما روى عن الرسول فى إعادة الصلاة، فلأنه كان إليه فعل فرض الصلاة، فلم يكن يسقطه فعل غيره، وقد كان صلى الله عليه وسلم تَقَدَّم إليهم أن يُعلموا، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يموت منكم ميت ما دمت بين أظهركم إلا آذنتمونى به، فإن صلاتى عليه رحمة‏)‏‏.‏

وقد ذكر ابن القصار نحو هذه الحجة سواء، واحتج أيضًا بالإجماع فى ترك الصلاة على قبر الرسول، ولو جاز ذلك لكان قبره أولى أن يُصلى عليه أبدًا، ثم كذلك أبو بكر وعمر، فلما لم ينقل أن أحدًا صلى عليهم، كان ذلك من أقوى الدلالة على أنه لا يجوز‏.‏

واختلفوا فيمن دُفن ونُسيت الصلاة عليه، فقال أبو حنيفة ومحمد‏:‏ يصلى على القبر ما بينهم وبين ثلاث‏.‏

وقال ابن وهب‏:‏ إذا ذكروا ذلك عند انصرافهم من دفنه، فإنه لا ينبش وليصلوا على قبره، سمعت هذا‏.‏

وقاله يحيى بن يحيى، وروى موسى وعيسى، عن ابن القاسم أنه يخرج بحضرة ذلك ويصلى عليه، وإن خافوا أن يتغير‏.‏

وقاله عيسى بن دينار، وروى موسى، عن ابن القاسم، قال‏:‏ وكذلك إذا نسوا غسله مع الصلاة عليه‏.‏

وفى المبسوط‏:‏ روى ابن نافع عن مالك إذا نسيت الصلاة حتى يفرغ من دفنه لا ينشره، ولا يصلى على قبره، ولكن يدعون له، وهو قول أشهب، وسحنون، ولم ير بالصلاة على القبر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏يقم المسجد‏)‏ يعنى يكنسه، يقال‏:‏ قم فلان بيته يقمه، إذا كنسه، والقمامة‏:‏ الكناسة، والمقمة المكنسة، ومن قولهم‏:‏ اقتم فلان ما على الخوان، إذا أكل ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ كالبيت المكنوس، والقميم يبس البقل، وقمت الشاة‏:‏ رعت، والإقمام‏:‏ ضرب الفحل الإبل، يقال‏:‏ أقم الفحل الإبل إذا ضربها‏.‏

وقال الخطابى‏:‏ حديث ابن عباس يروى على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يجعل المنبوذ نعتًا للقبر ومعناه أنه قبر منبوذ عن القبور، والوجه الآخر‏:‏ أن تكون الرواية على إضافة القبر إلى المنبوذ، معناه‏:‏ أنه مرّ بقبر لقيط فصلى عليه، والمنبوذ الملقوط، وهو المزكوم أيضًا، يقال‏:‏ زكمت به أمه فهو زكمة فلان‏.‏

باب الْمَيِّتُ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا وُضِعَ الْعَبْدُ فِى قَبْرِهِ، وَتُوُلِّىَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ، فَيَقُولانِ لَهُ‏:‏ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ‏:‏ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ‏)‏، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا، وَأَمَّا الْكَافِرُ وِالْمُنَافِقُ، فَيَقُولُ‏:‏ لا أَدْرِى، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ‏:‏ لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلا الثَّقَلَيْنِ‏)‏‏.‏

قوله صلى الله عليه وسلم فى الميت‏:‏ ‏(‏إنه يسمع قرع نعالهم‏)‏، وكلامه مع الملكين يبين قوله‏:‏ ‏(‏وما أنت بمسمع من فى القبور‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 22‏]‏ أنه على غير العموم‏.‏

قال المهلب‏:‏ ولا معارضة بين الآية والحديث، لأن كل ما نسب إلى الموتى من استماع النداء والنوح، فهى فى هذا الوقت عند الفتنة أول ما يوضع الميت فى قبره أو متى شاء الله أن يرد أرواح الموتى ردها إليهم لما شاء‏)‏ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 23‏]‏، ثم قال بعد ذلك‏:‏ لا يسمعون، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنك لا تسمع الموتى‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 80‏]‏،‏)‏ وما أنت بمسمع من فى القبور‏}‏‏.‏

وفيه‏:‏ أن فتنة القبر حق، وهو مذهب أهل السُّنَّة، وسيأتى الكلام فيه فى بابه، إن شاء الله‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏يسمعها من يليه‏)‏ فالذى يليه هم الملائكة الذين يلون فتنته ومسألته فى قبره، والثقلان‏:‏ الجن والإنس منعهم الله سماع صيحته إذا دفن فى قبره‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ الجن من الثقلين، وقد منعهم الله سماع هذه الصيحة، ولم يمنعهم سماع كلام الميت إذا حمل، وقال‏:‏ قدمونى قدمونى، فما الفرق بين ذلك‏؟‏ قيل‏:‏ إن كلام الميت حين يحمل إلى قبره هو فى حكم الدنيا، وليس فيه شىء من الجزاء والعقوبة، لأن الجزاء لا يكون إلا فى الآخرة، وإنما كلامه اعتبار لمن سمعه وموعظة، فأسمعها الله الجن، لأنه جعل فيهم قوة يثبتون بها عند سماعه، ولا يضعفون بخلاف الإنسان الذى كان يصعق لو سمعه، وصيحة الميت فى القبر عند فتنته هى عقوبة وجزاء، فدخلت فى حكم الآخرة، فمنع الله الثقلين، اللذين هما فى دار الدنيا، سماعَ عقوبته وجوابه فى الآخرة، وأسمعه سائر خلقه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا دريت ولا تليت‏)‏ الأصل فيه تلوت، فردوه إلى الياء ليزدوج الكلام، هذا قول ثعلب‏.‏

وقال ابن السكيت‏:‏ ‏(‏تليت‏)‏ هاهنا اتباع ولا معنى لها‏.‏

وقال ابن الأنبارى‏:‏ إنما قيل للجن والإنس‏:‏ الثقلان، لأنهما كالثقل للأرض وعليها، والثقل بمعنى الثقيل، وجمعها‏:‏ أثقال، ومجراهما مجرى قول العرب مِثْل وَمثيل، وشبه وشبيه، وكانت العرب تقول للرجل الشجاع‏:‏ ثقل على الأرض، فإذا مات أو قتل‏:‏ سقط ذلك عنها‏.‏

قالت الخنساء ترثى أخاها‏:‏ أبعد ابن عمرو من الربذة حلت بها الأرض أثقالها باب مَنْ أَحَبَّ الدَّفْنَ فِى الأرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أَوْ نَحْوِهَا

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ‏:‏ أَرْسَلْتَنِى إِلَى عَبْدٍ لا يُرِيدُ الْمَوْتَ، فَرَدَّ اللَّهُ إلَيْهِ عَيْنَهُ، فَقَالَ‏:‏ ارْجِعْ، فَقُلْ لَهُ‏:‏ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ، قَالَ‏:‏ أَىْ رَبِّ، ثُمَّ مَاذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ الْمَوْتُ، قَالَ‏:‏ فَالآنَ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْفنهُ مِنَ الأرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ‏)‏، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأحْمَرِ‏)‏‏.‏

قال أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة‏:‏ أنكر بعض أهل البدع والجهمية هذا الحديث ودفعوه، وقالوا‏:‏ لا يخلو أن يكون موسى عرف ملك الموت، أو لم يعرفه، فإن كان عرفه فقد ظلمه واستخف برسول الله، ومن استخف برسول الله فهو مستخف بالله، وإن كان لم يعرفه فرواية من روى أنه كان يأتى موسى عيانًا لا معنى لها‏.‏

قال الجهمى‏:‏ وزعمت الحشوية أن الله لم يقاصص الملك من اللطمة وفقء العين، والله تعالى لا يظلم أحدًا‏.‏

قال ابن خزيمة‏:‏ وهذا اعتراض من أعمى الله بصيرته، ولم يبصره رشده، ومعنى الحديث صحيح على غير ما ظنهُ الجهمى، وذلك أن موسى صلى الله عليه وسلم لم يبعث الله إليه ملك الموت، وهو يريد قبض روحه حينئذ، وإنما بعثه إليه اختبارًا وابتلاء، كما أمر الله خليله إبراهيم بذبح ابنه، ولم يُرد تعالى إمضاء الفعل ولا قتل ابنه، ففداه بذبح عظيم‏)‏ وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 104، 105‏]‏ ولو أراد قبض روح موسى حين ألهم ملك الموت لكان ما أراد، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما قولنا لشىء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وكانت اللطمة مباحة عند موسى إذا رأى شخصًا فى صورة آدمى قد دخل عنده لا يعلم أنه ملك الموت، وقد أباح الرسول فقء عين الناظر فى دار المسلم بغير إذن، رواه بشير ابن نهيك، عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من اطلع فى دار قوم بغير إذن، ففقأ عينه فلا دية ولا قصاص‏)‏‏.‏

ومحال أن يعلم موسى أنه ملك الموت ويفقأ عينه، وكذلك لا ينظره إلا بعلمه‏.‏

وقد جاءت الملائكةُ خليل الله إبراهيم ولم يعرفهم فى الابتداء حتى أعلموه أنهم رسل ربهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلامًا قال سلام ‏(‏إلى‏)‏ خيفة‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 69، 70‏]‏ ولو علم إبراهيم فى الابتداء أنهم ملائكة الله لكان من المحال أن يقدم إليهم عجلاً، لأن الملائكة لا تطعم، فلما وجس منهم خيفة، قالوا‏:‏ لا تخف إنا أُرسلنا إلى قوم لوط، وقد أخبر الله أن رسله جاءت لوطًا فسيئ بهم وضاق بهم ذرعًا، ومحال أن يعلم فى الابتداء أنهم رسل الله ويضيق بهم ذرعًا، أو يسيئ بهم‏.‏

وقد جاء الملك إلى مريم فلم تعرفه، واستعاذت منه، ولو علمت مريم فى الابتداء أنه ملك جاء يبشرها بغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويكون نبيًا ما استعاذت منه‏.‏

وقد دخل الملكان على داود فى شبه آدميين يختصمان عنده ولم يعرفهما وإنما بعثهما الله ليتعظ بدعوى أحدهما على صاحبه، ويعلم أن الذى فعله لم يكن صوابًا فتاب إلى الله وندم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعًا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 24‏]‏، فكيف يُستنكر ألا يعرف موسى ملك الموت حين دخل عليه‏.‏

وقد جاء جبريلُ النبى صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإيمان والإسلام فى صورة لم يعرفه النبى صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه، فلما ولَّى أخبر النبى أنه جبريل، وقال‏:‏ ‏(‏ما أتانى فى صورة قط إلا عرفته، غير هذه المرة‏)‏‏.‏

وكان يأتيه فى بعض الأوقات مرة فى صورة، ومرة فى صورة أخرى، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لم ير جبريل فى صورته التى خلق عليها إلا مرتين‏.‏

وأما قول الجهمى‏:‏ إن الله لم يقاصص ملك الموت من اللطمة، فهو دليل على جهل قائله، ومن أخبره أن بين الملائكة وبين الآدميين قصاص‏.‏

ومن أخبره أن ملك الموت طلب القصاص من موسى، فلم يقاصصه الله منه‏.‏

وقد أخبرنا الله تعالى أن موسى قتل نفسًا ولم يقاصص الله منه لقتله‏.‏

وقيل‏:‏ إذا كانت اللطمة غير مباحة يكون حكمها على كل الأحوال حكم العمد، فيه القصاص، أو تكون فى بعض الأحوال خطأ تجب فيه الدية على العاقلة، وما الدليل أن فقء عين ملك الموت كان عمدًا فيه القصاص دون أن يكون خطأ، وهل تركُ القصاص من موسى لملك الموت لو كان فقأ عين الملك عمدًا، وكان حكم الملائكة مع بنى آدم القصاص كحم الآدميين، إلا كترك القصاص من موسى لقتيله، وكترك القصاص من أحد بنى آدم لأخيه‏.‏

وقد يأمر النبى صلى الله عليه وسلم بالأمر على وجه الاختبار والابتلاء، لا على وجه الإمضاء لأمره، كما أمر صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد على الرجل الذى زعمت المرأة أنه وطئها من غير إقرار الرجل، ولا إقامة بينة عليه، فبان للنبى فى المتعفف من الوطء، وصح عنده أن الذى رمته به المرأة كان زنا، وهذا كأمر سليمان بن داود بقطع الصبى باثنين، وإنما أراد أن يختبر من أمُّ الصبى، لأن الأم أحنى على ولدها وأشفق، فلما رضيت إحداهما بقطع الصبى، ورضيت الأخرى بدفعه إلى الثانية، بان عنده وظهر أن أم الصبى اختارت حياة ابنها، وكذلك بعث الله ملك الموت إلى موسى للابتلاء والاختبار‏.‏

وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى لم يقبض نبيًا قط حتى يريه مقعده من الجنة ويخيره، فلا يجوز أن يؤمر ملك الموت بقبض روحه قبل أن يريه مقعده من الجنة، وقبل أن يخيره، والله ولى التوفيق‏.‏

ومعنى سؤال موسى أن يدنيه من الأرض المقدسة، والله أعلم، لفضل من دُفن فى الأرض المقدسة من الأنبياء والصالحين، فاستحب مجاورتهم فى الممات، كما يستحب جبرتهم فى المحيا، ولأن الفضلاء يقصدون المواضع الفاضلة، ويزورون قبورها ويدعون لأهلها‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما سأل الدنو من الأرض المقدسة ليسهل على نفسه، وتسقط عنه المشقة التى تكون على من هو بعيد منها من المشى وصعوبته عند البعث والحشر‏.‏

قال غيره‏:‏ ومعنى بعده منها ‏(‏رمية بحجر‏)‏ ليعمى قبره، لئلا يعبد قبره جهالُ أهل ملته، ويقصدونه بالتعظيم، والله أعلم، لأن النبى صلى الله عليه وسلم أخبر أن اليهود تفعل ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ذلك‏)‏‏.‏

باب الدَّفْنِ بِاللَّيْلِ وَدُفِنَ أَبُو بَكْرٍ لَيْلا

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ‏:‏ صَلَّى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ بَعْدَ مَا دُفِنَ بِلَيْلَةٍ، قَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانَ يسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ هَذَا‏؟‏‏)‏ فَقَالُوا‏:‏ فُلانٌ، دُفِنَ الْبَارِحَةَ، فَصَلَّوْا عَلَيْهِ‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ أجاز أكثر العلماء الدفن بالليل، فممن دفن بالليل أبو بكر الصديق، دفنه عمر بن الخطاب بعد صلاة العشاء، ودُفنت عائشة وعثمان بن عفان بالليل أيضًا، ودفن علىُّ بن أبى طالب زوجته فاطمة ليلاً، فَرَّ بِهَا من أبى بكر أن يصلى عليها، كان بينهما شىء، رواه ابن جريج عن عمرو بن دينار، أن حسن بن محمد أخبره بذلك، وقال‏:‏ أوصته فاطمة بذلك‏.‏

ورخص فى ذلك عقبة بن عامر، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وهو قول الزهرى، والثورى، والكوفيين، وابن أبى حازم، ومطرف بن عبد الله، ذكره ابن حبيب، وإليه ذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق‏.‏

وكان الحسن البصرى يكره الدفن بالليل، والدفنُ بالليل مباح، لأن الرسول صلى على الذى دفن بالليل، وعلى المسكينة، ولم ينكر ذلك عليهم‏.‏

وذكر الطحاوى من حديث جابر، وابن عمر، أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن الدفن ليلاً، وقد يكون النهى عن ذلك ليس من طريق كراهية الدفن بالليل، أراد رسول الله أن يصلى على جميع موتى المسلمين لما لهم فى ذلك من الفضل والخير، وروى عن أبى هريرة، أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل المقبرة فصلى على رجل بعد ما دفن، فقال‏:‏ ‏(‏ملئت هذه القبور نورًا بعد أن كانت مظلمة عليهم‏)‏‏.‏

وقيل‏:‏ إنما نهى عن ذلك لمعنى آخر رواه أشعث عن الحسن، أن قومًا كانوا يسئون أكفان موتاهم، فنهى رسول الله عن دفن الليل‏.‏

وأخبر الحسن أن النهى عن الدفن ليلاً إنما كان لهذه العلة، وقد روى جابر بن عبد الله نحوًا من ذلك‏.‏

روى ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبى جعفر، عن أبى الزبير، عن جابر، قال‏:‏ خطب بنا النبى صلى الله عليه وسلم فذكر رجلاً من أصحابه قبض فكفن فى كفن غير طائل فدفن ليلاً، فزجر أن يقبر الرجل ليلاً لكى يصلى عليه، إلا أن يضطر إلى ذلك، وقال‏:‏ ‏(‏إذا وارى أحدكم أخاه فليحسن كفنه‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فجمع فى هذا الحديث العلتين اللتين قيل إن النهى كان من أجلهما‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد فعل ذلك رسول الله، وروى ابن إسحاق، عن فاطمة بنت محمد، عن عمرة، عن عائشة، قالت‏:‏ ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا بصوت المساحى من آخر الليل ليلة الأربعاء‏.‏

وقال عقبة بن عامر‏:‏ ‏(‏ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلى فيهن وأن نقبر فيهن موتانا‏:‏ حين تطلع الشمس حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تضيف الشمس إلى الغروب حتى تغرب‏)‏‏.‏

فدل أن ما سوى هذه الأوقات بخلافها فى الصلاة على الموتى ودفنهم‏.‏

باب بِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْقبور

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ لَمَّا اشْتَكَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَتْ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بالْحَبَشَةِ، يُقَالُ لَهَا‏:‏ مَارِيَةُ، فَذَكَرَ مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أُولَئِكِ إِذَا مَاتَ مِنْهُمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةَ، أُولَئِكِ هم شِرَارُ الْخَلْقِ‏)‏‏.‏

لأنهم كانوا يعبدون تلك القبور، ولذلك نهى صلى الله عليه وسلم أن يتخذوا قبره مسجدًا، قطعًا للذريعة فى ذلك لئلا يعبد الجهل قبره، وقد تقدم هذا المعنى فى باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور‏.‏

باب مَنْ يَدْخُلُ قَبْرَ الْمَرْأَةِ

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ‏:‏ شَهِدْنَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ‏؟‏‏)‏ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ‏:‏ أَنَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَانْزِلْ فِى قَبْرِهَا‏)‏، قَالَ ابْنُ مُبَارَكٍ‏:‏ قَالَ فُلَيْحٌ أُرَاهُ يَعْنِى‏:‏ الذَّنْبَ‏.‏

قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يقارف الليلة‏)‏ أراد الجماع، وليس كما قال فليح أنه الذنب، لأن المقارفة أيضًا عند العرب‏:‏ المجامعة‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ فى حديث عائشة ‏(‏كان النبى صلى الله عليه وسلم يصبح جنبًا فى رمضان من قراف غير احتلام، ثم يصوم‏)‏‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ القراف هاهنا‏:‏ الجماع، وكل شىء خالطته وواقعته فقد قارفته‏.‏

وقد روى البخارى فى تاريخه ما يشهد لذلك، قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد المسندى، قال‏:‏ حدثنا عفان، قال‏:‏ حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس، قال‏:‏ لما ماتت رقية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يدخل القبر رجل قارف أهله الليلة‏)‏، فلم يدخل عثمان القبر‏.‏

قال البخارى‏:‏ لا أدرى ما هذا والنبى صلى الله عليه وسلم لم يشهد رقية، وقال الطبرى‏:‏ روى أنس، أن النبى صلى الله عليه وسلم لما نزلت أم كلثوم بنت النبى صلى الله عليه وسلم فى قبرها، قال‏:‏ ‏(‏لا ينزل فى قبرها أحد قارف الليلة‏)‏‏.‏

فذكرُ رقية فيه وهم، والله أعلم‏.‏

ولذلك ذكر البخارى فى هذا الباب حديث أنس، قال‏:‏ ‏(‏شهدنا بنت النبى‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، ولم يذكر فيه رقية، ولم يذكر حديث المسندى فى هذا، وهذا يدل على صواب قول الطبرى، والله أعلم‏.‏

وذكر البخارى أن أم كلثوم كانت تحت عثمان بن عفان بعد رقية ابنة النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

وذهب العلماء إلى أن زوج المرأة أولى بإلحادها من الأب والولد، ولا خلاف بينهم أنه يجوز للفاضل غير الولى أن يلحد المرأة إذا عدم الولى، ولما كان النبى صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ولم يجز لأحد التقدم بين يديه فى شىء لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تقدموا بين يدى الله ورسوله‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 1‏]‏ لم يكن لعثمان أن يتقدم بين يدى رسول الله فى إلحاد زوجته‏.‏

وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هل فيكم أحد لم يقارف أهله الليلة‏؟‏‏)‏ فيحتمل أن يستدل على معناه بقوله فى حديث المسندى‏:‏ ‏(‏فلم يدخل عثمان القبر‏)‏ ودل سكوت عثمان وتركه المشاحة فى إلحاد أهله أنه قد كان قارف تلك الليلة بعض خدمه، لأنه لو لم يقارف لقال‏:‏ أنا لم أقارف فأتولى إلحاد أهلى، بل كان يحتسب خدمته فى ذلك من أزكى أعماله عند الله، وكان أولى من أبى طلحة لو ساواه فى ترك المقارفة‏.‏

فأراد صلى الله عليه وسلم أن يمنعه إلحادها حين لم يمنعه حزنه بموت ابنة رسول الله، وانقطاع صهره منه، عن المقارفة تلك الليلة على طراوة حزنه وحادث مصابه لمن لا عوض منها، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببى ونسبى‏)‏‏.‏

رواه عمر بن الخطاب، وابن عباس، وأبو رافع، والمسور، كلهم عن النبى صلى الله عليه وسلم ذكرها كلها الطبرى‏.‏

فعاقبه صلى الله عليه وسلم بأن حرمه هذه الفضيلة، وكان عثمان كثير الخدم والمال، وفيه فضل عثمان وإيثاره الصدق حتى لم يَدَّعِ تلك الليلة ترك المقارفة، وإن كان عليه بعض الغضاضة فى إلحاد غيره لزوجته‏.‏

باب الصَّلاةِ عَلَى الشَّهِيدِ

- فيه‏:‏ جَابِرِ، قَالَ‏:‏ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ‏)‏‏؟‏ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا، قَدَّمَهُ فِى اللَّحْدِ، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ‏.‏

- وفيه‏:‏ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنِّى فَرَطٌ لَكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، وَإِنِّى وَاللَّهِ لأنْظُرُ إِلَى حَوْضِى الآنَ، وَإِنِّى أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأرْضِ، وَإِنِّى وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِى، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا‏)‏‏.‏

وترجم لحديث جابر بَاب ‏(‏دَفْنِ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلاثَةِ فِى قَبْرٍ وَاحِدٍ‏)‏، وباب ‏(‏مَنْ لَمْ يَرَ غَسْلَ الشُّهَدَاءِ‏)‏، وباب ‏(‏مَنْ يُقَدَّمُ فِى اللَّحْدِ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى هذا الباب، فقال مالك‏:‏ الذى سمعته من أهل العلم والسُّنَّة أن الشهداء لا يغسلون، ولا يصلى على أحد منهم، ويدفنون فى ثيابهم التى قتلوا فيها، وهو قول عطاء، والنخعى، والحكم، والليث، والشافعى، وأحمد‏.‏

وقال أبو حنيفة، والثورى، والأوزاعى‏:‏ يصلى عليه ولا يغسل، وهو قول مكحول‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ لا يغسل الشهيد، لأن الله قد طيبه، ولكن يصلى عليه‏.‏

وقال سعيد بن المسيب، والحسن البصرى‏:‏ يغسل الشهيد ويصلى عليه، لأن كل ميت يجنب‏.‏

وحجة مالك، ومن وافقه حديث جابر أنهم لم يغسلوا ولم يُصلى عليهم، وأيضًا فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى دم الشهيد‏:‏ ‏(‏اللون لون دم، والريح ريح المسك‏)‏‏.‏

وقد روى فى الحديث‏:‏ ‏(‏إذا كان يوم القيامة وبعث الله العباد، قام الشهداء من قبورهم، ووثبوا على خيولهم مستشفعين إلى الله بذلك‏)‏‏.‏

فوجب ألا تغير أحوالهم أخذًا بالسُّنة التى رواها جابر فى قتلى أُحُد‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ ويوم أُحُد قتل فيه سبعون نفسًا، فلا يجوز أن تخفى الصلاة عليهم‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللون لون دم والريح ريح مسك‏)‏ نهى عن الصلاة عليه، لأنه ميت لا يغسل فوجب ألا يصلى عليه، دليله السقط الذى لم يستهل، وإذا سقط فرض الطهارة سقط فرض الصلاة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 169‏]‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صلوا على موتاكم‏)‏‏.‏

وقد نفى الله عنهم الموت، وأوجب لهم الحياة، فلا تجب الصلاة عليهم‏.‏

واحتج أبو حنيفة، ومن وافقه بحديث عقبة بن عامر‏:‏ ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى على أهل أُحُد بعد ثمانى سنين صلاته على الميت‏)‏، وبما روى أنه صلى على حمزة سبعين صلاة، قالوا‏:‏ فلو لم تجز الصلاة على الشهداء ما صلى عليهم، روى ذلك من حديث ابن عباس، وابن الزبير، فأما حديث ابن الزبير فرواه أحمد بن عبد الله بن يونس، عن أبى بكر بن عياش، عن يزيد بن أبى زياد، عن مقسم، عن ابن عباس، ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوضع بين يديه يوم أُحُد عشرة فيصلى عليهم وعلى حمزة، ثم يرفع العشرة، وحمزة موضوع، ثم يوضع عشرة فيصلى عليهم وعلى حمزة معهم، يكبر عليهم سبع تكبيرات، حتى فرغ‏)‏‏.‏

وحديث ابن الزبير ذكره ابن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده‏.‏

وقال أهل المقالة الأولى‏:‏ يحتمل أن يكون حديث ابن عباس، وابن الزبير أنه صلى على قتلى أُحُد على من حمل فعاش، حتى تستعمل الأحاديث، ويجوز أن يكون صلى عليهم أى‏:‏ دعا لهم، وعلى هذا يتأول حديث عقبة أنه دعا لهم كما يدعى للميت بالمغفرة والرحمة، لأن الصلاة من النبى لأمته هى بمعنى الدعاء لهم، ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏ أن المراد به الدعاء لهم‏.‏

والدليل على صحة هذا التأويل حديث ابن إسحاق، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال‏:‏ أخبرنى أبو مويهبة، مولى النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنى قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع‏)‏، فاستغفر لهم ثم انصرف، فقال لى‏:‏ ‏(‏إن الله قد خيرنى فى مفاتيح خزائن الأرض، والخلد فيها ثم الجنة، أو لقاء ربى، فاخترت لقاء ربى‏)‏‏.‏

وأصبح رسول الله من ليلته تلك فبدأه وجعه الذى مات فيه، فكأن خروجه إلى البقيع كالمودع للأحياء والأموات، حتى نعيت إليه نفسه، فهذا تفسير حديث ابن عباس، وابن الزبير، وحديث عقبة، وأن الصلاة فيها بمعنى الدعاء والاستغفار، كما دل عليه كتاب الله‏.‏

وأما صلاته على حمزة فهو خصوص له، لأنه كبر عليه سبع تكبيرت، وهم لا يقولون بأكثر من أربع، وحمزة مخصوص بإعادة الصلاة عليه لو صح ذلك، لإجماع العلماء أنه لا يجوز أن يصلى على قبر لم يصل عليه إلا بحدثان ذلك، وأكثر ما حُدَّ فى ذلك ستة أشهر‏.‏

وقد عارض حديث ابن عباس، وابن الزبير، ما روى أسامة بن زيد، عن الزهرى، عن ابن عباس، ‏(‏أن النبى لم يصل على أحد من قتلى أُحُد غير حمزة‏)‏‏.‏

فصار مخصوصًا بذلك، لأنه وجده فى القتلى قد جرح ومُثل به، فقال‏:‏ ‏(‏لولا أن تجزع عليه صفية لتركته حتى يحشره الله من بطون الطير والسباع‏)‏، فكفنه فى نمرة إذا خمر رأسه بدت رجلاه، وإذا خمر رجليه بدا رأسه، ولم يصل على أحد غيره، وقال‏:‏ ‏(‏أنا شهيد عليكم اليوم‏)‏‏.‏

ويشهد لهذا المعنى حديث جابر، وهذا أولى ما قيل به فى هذا الباب، لأنه أصح من الأحاديث المعارضة له، وقول سعيد بن المسيب، والحسن مخالف للآثار، فلا وجه له‏.‏

واختلف الفقهاء إذا جرح فى المعركة، ثم عاش بعد ذلك، أو قتل ظلمًا بحديدة، أو غيرها فعاش، فقال مالك‏:‏ يغسل ويصلى عليه‏.‏

وبه قال الشافعى‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ إن قتل ظلمًا فى المصر بحديدة لم يغسل، وإن قتل بغير الحديدة غسل‏.‏

وحجة مالك ما رواه نافع، عن ابن عمر، أن عمر غُسل وصلى عليه، لأنه عاش بعد طعنته وكان شهيدًا‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ ولم ينكر هذا أحد من الصحابة‏.‏

قال‏:‏ وكذلك جرح علىّ بن أبى طالب، فعاش ثم مات من ذلك، فغسل وصلى عليه، ولم ينكره أحد‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وفيه من الفقه أن الموت إذا كثر فى موضع بطاعون أو غيره، أو كثر القتل فى معركة حتى تعظم المؤنة فى حفر قبر لكل رجل منهم، أن تدفن الجماعة منهم فى حفرة واحدة، كالذى فعل صلى الله عليه وسلم فى جمع مشركى بدر فى قليب واحد، وهم سبعون رجلاً‏.‏

واختلفوا فى دفن الاثنين والثلاثة فى قبر، فكره ذلك الحسن البصرى، وأجازه غير واحد من أهل العلم، فقالوا‏:‏ لا بأس أن يدفن الرجل والمرأة فى القبر الواحد، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، غير أن الشافعى وأحمد، قالوا ذلك فى موضع الضرورات‏.‏

وحجتهم حديث جابر المتقدم، وقال‏:‏ يقدم أسنهم وأكثرهم أخذًا للقرآن، ويقدم الرجل أمام المرأة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وهذا خطاب للأحياء أن يتعلموا القرآن، ولا يغفلوه حين أكرم الله حملته فى حياتهم وبعد مماتهم‏.‏

والفَرط‏:‏ المتقدم‏.‏

والنمرة‏:‏ كساء من شعر أو شقة من شعر‏.‏

عن الطبرى‏.‏

وقال ابن السكيت‏:‏ إذا نسج الصوف وجعل له هدب، فهى نمرة وبرد وشملة‏.‏